أدركت معنى ما سمعت عنه قبل سفري حينما أخبرت عن حرارة هذه البلاد ، ها أنا ذا أخطوا أول خطوة خارج الطائرة و العرق الغزير يغمر رقبتي منحدراً إلي صدري ، أتابع المئات حولي من عشرات الجنسيات لا تختلف أسباب سفرهم كثيراً عن سببي ، تتفرس عيناي في ملامح الكثيرين ، كنت قد عودت نفسي علي البرود توقعاً مني لمواجهته كثيراً ، و في الطريق إلي مكان الإقامة أتطلع إلي الطريق الذي تنهبه الحافلة نهباً و إلي المبان الشاهقة فأتذكر أنني قررت أن أكون بارداً وأتظاهر باللامبالاة ، و لم أشعر بأي نوع من الصدمة عند مشاهدة مكان الإقامة المتواضع جداً حيث دائماً ما أفترض الأسوأ في كل وقت ، نوماً متقلباً تتخلله أحلام مزعجة ، أصحو متوتراً محاولاً الهدوء ، في العمل لم أجد ما له علاقة بما أخبرت عنه ولكن نظرية افتراض الاسوأ ساعدتني علي التقبل ، ذات مرة رأيت فتاة رائعة الجمال تجلس في مواجهتي و أنا أتناول الغداء في أحد مطاعم الوجبات السريعة ، و في البداية لم تكن تنظر إلي و لما نظرت إليها وجدتها تتطلع إلي مباشرة و علي وجهها شبح ابتسامه فتذكرت قوانين سوء الحظ التي تجعل هذه الابتسامه موجهة لشخص آخـر يقف خلفي و افترضت أنها الحقيقة ، و لذا فقد تجاهلت الأمر و تابعت ذلك الاستعراض الخليع علي شاشة التلفاز ، و بعد عودة رأسي إلي موضعها لمحت ذلك الأشقر و هو يحيطها بذراعه و يغادران المكان . تذكرت هذا الموقف كثيراً مما زادني ثقة في حدسي . تكاد عيناي تحفظ تجاعيد حوائط غرفة مكتبي من كثرة التأمل و التفكير المتذبذب الذي ينتهي بنوبة من التوتر و الحنق حيث أمقت الجو السينمائي و مرور شريط الذكريات بوجوه الاصدقاء و الأهل رغم واقعية هذه الأجواء و لايكاد يصمت صوت أم كلثوم من مكتبي إلا قبل رحيلي إلي غرفة الإقامة التي لا أجد لها اسما مناسباً ، أصطدم بالعديد من الأجناس الملونة الآسيوية من كافة البلاد حتي تشوشت أذناي من كثرة اللغات فأضع سماعتي الأذن لأسرح بخيالي مع اللحن .سألت شيخ الطريقة ، مرضيش يجاوب سؤالي
دارى عني الحقيقة و فاتني حاير في حالي
بعد أن حفظت تشكيلات النجوم في السماء من التأمل اليومي كل ليلة قررت أن اكتب الشعر و انتهيت من قصيدتي بعد قراري بأيام ، لأمزق الورقة طولاً و عرضاً في لحظة سأم متهورة حتي أني لا أذكر ما كتبت و ها أنا ذا أحاول التفكير في قصيدة جديدة اثناء تناولي الطعام في مطعمي المفضل ، يبدو أن هذه الفتاة لا تغير مقعدها هذا أبداً و كذلك أنا ، ها هو شبح الابتسامه مجدداً و هي تنظر في وجهي مباشرة ، لابد أن هناك مشكلة في نظري تجلعني غير قادر علي تحديد من ينظر إلي ممن ينظر خلفي تطلعت إليها بوجه بارد يحمل انطباع " هل فقدت صوابك يا آنسه ؟ " فمن الواضح أن الأشقر قد تأخر و هي لازالت تبتسم بهذا الجمال المستفز ، ارتديت نظارة الشمس و سماعات الاذن و غادرت المكان في هدوء .
أشكي لمين و أحكي لمين دنيا بتلعب بينا
تهنا سنين و لا عارفين بكرة جايب ايه لينا
أشير إلي سيارة أجرة لتقلني إلي عملي فتتجاوزني السيارة ببضع خطوات و قبل أن ادلف اليها يسبقني شخص ما ليركب بجوار السائق و تنطلق السيارة و كأن وجودي في الحياة لا يختلف عن وجود ثاني أكسيد الكربون أو أي عنصر غازي و لم اندهش من كون هذا الرجل هو نفسه الرجل الأشقر . اتناسي الامر و انطلق الي عملي .
لا مفر من مشاهدة الافلام السينمائية علي حاسوب العمل و التي اقتربت من حفظ جملها الحوارية بالاداء التمثيلي و لكنها مسأله مؤقتة لحين احضار عدد من المسرحيات العربية حتي يكتمل نادي الفيديو ، و هنا لا تتوقف فتيات و فتيان الصين عن المرور اليومي علي مكتبي لعرض سلعهم العجيبة فاضطر للتظاهر بأنني أفهم . و لكن الأشقر يمر من خلال الردهه و يدخل الشركة المقابله لتنطلق الفتيات خلفه و منهم واحده تلفظت ببضع كلمات فهمت منها انها اضاعت وقتها الثمين مع أحمق مثلي . و لكني احاول التجاهل و أغلق باب المكتب و ارفع صوت الموسيقي المنبعثه من الحاسب .
طنوش قالك طناش و متعصلجلناش
تعمللي فيها عنتر ده شيء ميخصناش
عندما يتطلع إلي الناس باعتباري كائناً فضائياً فمن المؤكد أن هناك وقفة أمام المرآة إلا أنها لم تضف جديد ، إذن فالجميع أغبياء ولا يوجد تفسير آخــر ، اختصرت هذه القاعدة طرقاً عديدة و أصبح الأمر أسهل فمن المؤكد أن قطيع الأغنام سينظر إليك في دهشة و انت تضم شفتيك و تصفر لأنهم لا يمتلكون نفس الصلاحية و لن يستغرق هذا أكثر من ثانية من تفكيرهم حيث تهوي عصاتك الغليظه علي مؤخرة أحدهم لينطلق باقي القطيع أمامك مواصلاً طريقه بغض النظر عن ذلك الخروف الأشقر الذي سلك طريقاً مخالفاً . و هذه هي قاعدتي التي فتحت لي مسلكاً عقلياً مريحاً فلا أحتاج إلي الافراط في الأناقة الشكلية و الكلامية أمام كل شخص .
ربك هو العالم ربك رب قلوب
مين عارف يا حبيبي ايه لينا مكتوب
و احنا قلوب مشتاقة و الدنيا سراقة
دنيا فيها الغالب تاني يوم مغلوب
أبو حميد هو قريبي الذي يقطن معي في نفس الغرفة و أنا بصدد تأليف سلسلة مغامرات سيكون هو بطلها بلا منازع ، فبغض النظر عن أنه لا يعلم شيئاً عن أحداث 11 سبتمبر ، ولا يعرف اسم رئيس الدولة التي يعمل بها ، كما أنه يخلط ما بين صلاح الدين الأيوبي و الخلفاء الراشدين ، إلا أنه طيب القلب و هو مثال لكائنات ما خارج النطاق و هي الكائنات التي أتيح لها أن تعرف و لكنها لا تجد أهمية لذلك فالمعرفة لا تتعدى كونها صداع و ( فكك مني بقي يا عم الحاج ) ، إنني أنظر إلي أبو حميد و أسبح بحمد الله فبقدرته خلق اينشتاين و نيوتن و أحمد زويل و بقدرته أيضاً خلق أبو حميد ، و لا أشعر بأي ضغينة تجاه تصرفاته العدوانية نحوي حينما أسأله سؤالاً عاماً لايمانه التام بأن كل أهل الأرض انما خلقوا فقط من أجل مضايقته لكنه يحيا بمنطقه الخالد ( مش أنا اللي يتعلم عليا ) . أبو حميد آثر أن يتوقف تعليمه عند المرحلة الاعدادية متوجهاً إلي الدبلوم ثم العمل مباشرة بدون تعقيدات الحياة الجامعية فتحول إلي كائن من نوعية " أصلي عليـــه " و " قشطة علينا " و ليذهب كل علماء و أدباء العالم إلي الجحيم . أبو حميد غضب غضباً شديداً عندما سألته سؤالاً دينياً عجز عن اجابته و ظل عابس الوجه لثلاثة أيام كاملة حتي قدمت له اعتذاراً علنيا و " بوست راسه " .
حكيت لأبو حميد ذات يوم عن طرائفي مع الأشقر فانفجر ضاحكاً قائلاً " أوف .. الواد علم عليك و خد المزز يا مقطف .. أصلي عليه " و اضطررت لمجاراته في الضحك حتي لا يغضب لأربعة أيام أخرى .
أبو حميد لا يريد الاقتناع بأن موضة نغمات الموبايل و تشغليها طوال الوقت قد انقرضت منذ العصور الوسطى فلا يزال يصر علي ممارسة ذلك في الأماكن العامة فاكتفي أنا بارتداء نظارتي الشمسية و التطلع إلي لاشيء .
أنا شارب سيجارة بني حاسس إن دماغي بتاكلني
قاعد في بيتنا بسقط و الغسيل عمال بينقط
و الشارع اللي ورايا قدامي و الكلام علي طرف لساني
اتجهت مباشرة إلي الجانب الآخــر من الشارع الرئيسي قاصداً الأشقر و توقفت أمامه مباشرة قائلاً : عارف انك مستفز و ناجح في ده معايا بس من الآخــر ، أنا مش فاهم أنا جاي أقولك الكلمتين دول ليه من أصله !
تطلع إلي بلا أي انفعال ، وضع يديه في جيوبه و انصرف . تطلعت إليه و أنا انتظر أن يلتفت إلي بنظرة كراهية ، إلا أنه لم يلتفت فاتجهت إلي الطريق المعاكس و أنا أقاوم رغبة عارمة في الالتفات ثانية و قبل الانحراف يساراً التفت مرة أخرى بلا وعي ، و لكنه لم يكن موجوداً
محمد أسامه
نوفمبر 2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق